فصل: باب: الوقف في الإيلاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الإيلاء عن نسوة:

قال الشافعي: "وإذا قال لأربع نسوة: والله لا أقربكن... إلى آخره".
9444- إذا قال لزوجاته الأربع: والله لا أجامعكن، فالوجه أن نذكر ما يتعلق بالبر والحِنث ثم نعود إلى حكم الإيلاء: فإذا قال: لا أجامعكن، لم يحصل الحنث بمجامعة ثلاث منهن؛ فإن اليمين المعقود على أفعال لا يتحقق الحنث فيها بالبعض، كما لو حلف لا يأكل أرغفة، فإنه لا يحنث بأكل بعضها، بل لا يحنث ما بقيت منها قطعة، وهذا ممهّد في الأَيْمان، ومعناه واضح متلقى من موجَب اللفظ، ولو ماتت واحدة منهن، انحلّت اليمين؛ فإنه يتحقق امتناع الحنث، واسم الوطء في حنث اليمين وبرّها ينطلق على غشيان الحيّة.
ولو قال: والله لا أجامع فلانة، فماتت، فاقتحم المأثم وأتاها، لم يحنث.
هذا هو المذهب.
وحكى الشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن البر والحنث يتعلّقان بوطء الميت.
وهذا بعيد لا تعويل عليه، فلا خلاف أنه لو قال: والله لا أضرب فلاناً، فضربه بعد الموت، لم يكن ما جاء به الضربَ الذي انعقدت اليمين عليه، ولو وطىء واحدة ثم ماتت، لم يقدح موتها بعد الوطء، فإنْ وطىء الباقيات في حياتهن حنث.
ولو قال لنسوته: والله لا أجامعكن، ثم طلق ثلاثاًً منهن فبِنَّ ثم زنا بهنَّ، ثم وطىء الرابعة، حَنِث بوطئها؛ فإن اليمين لا يختص بالوطء المستباح.
فهذا ما يتعلق بحكم البر والحنث، ولا شك أنه إذا جامعهن، لم يلتزم إلا كفارة واحدة، فإنْ وطئهن، حنث حنثاً واحداً، واتحاد الكفارة وتعددها يُتلقى من الحِنْث.
وإذا قال: لا أجامعكن، فأتى بعضهن، أو جميعهن في أدبارهن، فالذي أراه أنه في حكم الحنث، كالإتيان في المأتى؛ فإن ذلك وإن كان يندر فعلاً، فليس خارجاً عن عرف اللسان، ولا يُرعى في الأيمان ما يجري العرف به عملاً، وإنما يُرعى ما يعدّ مندرجاً تحت اللسان، وسأصف عرف الأيمان في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
9445- ونحن نعود إلى حكم الإيلاء، فنقول: إذا قال لنسوته: والله لا أجامعكن، فالمنصوص عليه في الجديد أنه لا يثبت حكم الإيلاء في حق واحدة منهن؛ فإنه لا يلتزم بجماع واحدة بعد الأشهر أمراً، وفي المسألة قول قديم: أنه يصير مولياً؛ فإنه بوطء واحدة يقرب من الحِنْث، والقربُ من الحِنْث في حكم أمر ملتزم، وقد مهدنا هذا فيما تقدم-وإن فرعنا على الجديد- فلو وطىء ثالثاً صار مولياً عن الرابعة، فيبتدىء بعد وطء الثالثة ابتداء المدّة في إيلاء الرابعة، فإذا انقضت، فلها الطّلبة، و على القديم لكل واحدة منهن الطلب؛ تعويلاً على القُرب من الحنث، ثم إن كان يطأ، فلا يلتزم بوطء ثلاثٍ إلا القربَ من وقوع الحنث في حق الرابعة.
ولو ماتت واحدة قبل الوطء، فالمذهب انحسام الإيلاء؛ فإن الحنث بوطئهن صار مأيوساً عنه.
وإن أبان واحدة منهن، لم يرتفع الإيلاء في حق الباقيات؛ لأن الحنث ممكن، كما قدمناه، نعم هذه البائنة لو عادت، فهل يعود لها حكم الطَّلبة على ما يقتضيه التفريع على قولي الجديد والقديم؟ فعلى قولي عَوْد الحنث.
ومن أحاط بما مهدناه في البر والحنث، لم يخف عليه كيفية التفريع على القولين في مقتضى الإيلاء.
وقد نجز الغرض في هذه الصورة وهي إذا قال: "والله لا أجامعكن" ونحن نذكر بعد ذلك صورتين، ونذكر بعدهما فرعاً لابن الحداد، وعليه يتنجّز الباب.
9446- صورة: إذا قال لنسوته الأربع: والله لا أجامع واحدة منكن، فهذا يستعمل على وجهين:
أحدهما: على اقتضاء التعميم.
والثاني: على تخصيص الإيلاء بواحدة منهن.
فإن قال: أردت التعميمَ، فهذه اللفظة فيها لطيفةٌ يجب فهمها، ثم الخوض بعدها في الفقه، فلو قال: لا أجامعكن، فهذا يقتضي حصولَ الجماع في جميعهن، واللفظ على هذا الوجه يعمهن بتأويل اقتضاء اجتماعهن، حتى لا يحصل الغرض بمجامعة بعضهن، فهذا معنىً في العموم.
وإذا قال: لا أجامع واحدة منكن على إرادة العموم، فهذا عمومُه على معنىً آخر، فإن اليمين متعلّقة بآحادهن. هذا هو وجه في العموم، ولا يقتضي تحقّقُ الحنث وطءَ جميعهن؛ من جهة أنه قال: لا أجامع واحدة منكن، والمعنى جميعهن، مع تنزيل اليمين على كل واحدة على طريق البدل.
فإذا فهم هذا المعنى، انبنى عليه أنا نجعله مولياً عن كل واحدة منهن؛ من جهة أنه لا يقدم على وطء واحدة بعد الأربعة الأشهر إلا ويلتزم الكفارة بغشيانها، للمعنى الذي نبهنا عليه، ولو وطىء واحدة منهن وحنث وألزمناه الكفارة، فتنحلّ يمينه، ويسقط حكم الإيلاء في حق الباقيات؛ لأنه بوطء واحدة خالف جميع قوله: "لا أجامع واحدة منكن" فاقتضى ذلك انحلالَ اليمين، وإذا انحلّت، سقط أثرها في مقتضى الإيلاء.
فإن قيل: ألستم قلتم: إنه مولٍ عن كل واحدة؟ قلنا: نعم هو كذلك، ولكن على طريق البدل، فهذا فيه معنى العموم، وفيه معنى التخصيص، ثم جملة اليمين تنحلّ إذا وطىء واحدةً.
9447- وهذا يبين بصورة أخرى تناقض هذه الصورة، وهو أنه لو قال: والله لا أجامع كل واحدة منكن، فهذا يتضمن تخصيص كلّ واحدة بالإيلاء على وجه لا يتعلق بصواحباتها، حتى كأنه أفرد كل واحدة بيمين على حيالها.
ونقل بعض النقلة عن القاضي أنه جعل قوله: لا أجامع كل واحدة بمثابة قوله: لا أجامع واحدة منكن، حتى قضى بأن اليمين تنحلّ بوطء واحدة.
وهذا خطأ صريح، والخطأ محال على الناقل؛ فإن القاضي أعرف بالعادات وصيغ العبارات من أن يقول هذا.
فإذاً الألفاظ المدارة في الباب ثلاثة: أحدها: أن يقول: لا أجامعكن، فالحنث لا يحصل إلا بجماع جميعهن.
والثاني: أن يقول: لا أجامع واحدة منكن، وهو يبغي التعميم الذي فسرناه، فهذا تعميمٌ على البدل، ويحصل الحنث بأول امرأة يجامعها.
والثالث: أن يقول: لا أجامع كل واحدة، وهذا يوجب انعقاد اليمين في حق كل واحدة، على وجهٍ لا يتعلق حكمها بحكم غيرها، وموجب ذلك أن الحنث لا يحصل في حق الجميع بوطء الواحدة.
9448- ولو قال: لا أجامع واحدة منكن وزعم أنه أراد الإيلاء عن واحدة من جملتهن، فهذا مقبول؛ فإن اللفظ صالح لهذا، ثم يقال له: أعيّنتَها بقلبك أم لا؟ فإن زعم أنه عيّنها، قلنا له: بيّنها، والمذهب أنه يطالَب بتعيينها، كما يطالَب بتعيين المطلقة وتبيينها إذا أَبْهمَ طلقةً بين النسوة.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين:
أحدهما: ما ذكرناه.
والثاني: أنه لا يطالب بالبيان، ولا يُحمل عليه بخلاف الطلاق، والفرق أن المطلّقة خارجة عن النكاح، فضبطها في حِبالة النكاح من غير نكاح ممنوع، وليس كذلك الإيلاءُ؛ فإن المرأة لا تصير خارجة عن ربقة النكاح بالإيلاء، فليس في حبسها في حِبالة النكاح ما يخالف وضعَ الشرع.
ثم لو ادعت واحدة منهن أنه عناها، فيجب عليه أن يجيب عن دعواها، والخلاف الذي ذكرناه فيه إذا اعترف بالإشكال، فإذا ادّعت واحدةٌ أنه عناها، طولب بالجواب، فإن قال: لم أَعْنها، حُلّف، فإن نكل، رُدّت اليمين، والتفريع في فصل الخصومة كما تقدم في الطلاق، فلا نعيد تلك التفاصيل.
ولو قال الزوج: "لا أدري"، لم نقنع منه بهذا، وهذا مما تقرّر في إبهام الطلاق، فلم نؤثر إعادته.
9448/م- ومما يتعلق بالمسألة أنه لو كان قال: والله لا أجامع واحدة منكن، ثم زعم أن لفظه مطلق، وأنه لم يخطر له لا معنى العموم على التفسير المقدم فيه، ولا تخصيصُ واحدة على تأويل إبهام الإيلاء، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين:
أحدهما: أن مطلق لفظه يُحمل على عقد اليمين على جميعهن على التأويل المقدّم.
والوجه الثاني- أنه يُحمل على الإبهام.
والمسألة محتملة، وقد ذكرنا قاعدة أمثال هذه المسائل في كتاب الطلاق، فإذا حملنا مطلق اللفظ على العموم، فقد بان حكمه، وإن حملناه على الإبهام، فليتثبت الناظر في معناه، فإن من أبهم طلقة، ولم يعيّن بقلبه قلنا له: عيّن باختيارك تشهياً ما شئت، فإذا أبهم الإيلاء، ولم يُعيّن بقلبه-وهكذا يكون الأمر إذا حملنا المطلق عليه- فكيف الوجه؟ وما السبيل؟ هذا ينبني على أنه هل يطالب بالتعيين؟ فإن قلنا: إنه يطالب به، فليعيّن واحدةً، كما مهدناه في الطلاق.
ثم ينتظم عليه أن مدة الإيلاء من وقت التعيين، أو من وقت اللفظ؟ ففيه وجهان قدمنا نظيرَهما في إبهام الطلاق، حيث قلنا: إن الطلاق يقع عند التعيين أو يستند إلى اللفظ، وهذا كذلك، فإن جعلناه مولياً من وقت التعيين، فابتداء المدة من ذلك الوقت، وإن جعلناه مولياً من وقت اللفظ تبيُّناً، فابتداء المدة من اللفظ، ولا يخرّج هذا على اختلافٍ ذكرناه في العدة؛ فإن المدّة قد لا يُعتدّ بها مع التباس الحال ولا يظهر مثل ذلك الأصل هاهنا.
وقد نجز الكلام في الصورتين الموعودتين.
فرع لابن الحداد:
9449- إذا كان للرجل امرأتان، فقال: إن وطئت إحداهما، فالأخرى طالق، فلا يخلو من أن يعيّن بقلبه واحدة منهما ويريدها بالإيلاء، فإن كانت المسألة كذلك، فالإيلاء يثبت في حق تلك المعينة بالقلب دون الأخرى، فإذا انقضت المدة والأمر مبهم عندنا، قال ابن الحداد: إذا رفعنا الزوج إلى القاضي قال له القاضي: فىء وخالف يمينك، فإن فاء، فذاك، وإن أبى، قال ابن الحداد: يُطلّق القاضي إحدى امرأتيه على الإبهام. وفرّع على أن القاضي يطلّق.
وقد قال القفال: هذا غلط صريح من قول ابن الحداد؛ فإن تطليق القاضي يترتب على صحة الدعوى، ومسألة ابن الحداد مفروضة فيه إذا كانتا معترفتين بالإشكال؛ إذ لو كانت المولَى عنها معيّنة بقلبه، لدارت الخصومة في محاولة التعيين، كما نبهنا عليه، وأحلناه على ما قدمناه في الطلاق. فإذا قال ابن الحداد:
يبهم القاضي الطلاقَ، دلّ أنه فرض المسألة في اطراد الإشكال، وإذا كان كذلك، فلا تصح الدعوى من واحدةٍ منهما، وهي معترفة بأنها لا تدري أن الزوج عناها أم لا، وهذا بمثابة ما لو قال رجلان: لأحدنا عليه ألفُ درهم، فالدعوى لا تسمع على هذا الوجه، إلا أن تكون مجزومةً، وكذلك لو قالت امرأة: آلَى عنّي زوجي أو ضربني، أو قالت: آلَى عني أو شتمني، فلا تسمع الدعوى على هذا الوجه.
وهذا الاعتراض متجهٌ جداً، والعجب أن الشيخ أبا علي مع انبساطه في الإتيان بكل ما قيل، وهو من أقدم أصحاب القفال، نقل جواب ابن الحداد، ولم يورد اعتراض القفال عليه، ولم يعترض هو من تلقاء نفسه، وأخذ يفرع على مذهب ابن الحداد بما سنذكره.
فإن قيل: هل يتوجه مذهب ابن الحداد؟ قلنا: نعم، الممكن فيه أن المرأتين إذا اعترفتا بالإشكال، فالضرار قائم على الإبهام، فإذا امتنع عن الفيئة، فلا سبيل إلى إهمال الواقعة، ولا سبيل إلى تعيين الطلاق، فلا ينطبق على صورة الحال إلا ما ذكره. هذا هو الممكنُ، ثم إذا وقع الطلاق من جهة القاضي مبهماً، فالتعيين إلى الزوج، فإن كان عين بقلبه واحدة، صادفها الطلاقُ، فعليه التبيين، وإن لم يعين بقلبه واحدةً عند إبهام الإيلاء، فعليه التعيينُ الآن للطلاق.
9450- فلو قال: ارتجعت من طلقت، فهل تصح الرجعة على الإبهام؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي:
أحدهما: أنها تصح بناء على الطلاق.
والثاني: لا تصح؛ فإن الرجعة استحلال مضاهٍ لعقد النكاح، فلا يليق بها الإبهام؛ إذ الإبهام يناظر التعليق، فما لا يصح تعليقه لا يصح إبهامه، ولذلك أثرت الجهالة في صحة الإبراء لمّا امتنع تعليقه، وهذا هو السديد. وإن قلنا: تصح الرجعة مبهمةً، فلا كلام، وإن قلنا لا تصح، فالوجه أن يعيّن المطلقة أولاً. ثم يبنى على تعيّنها الرجعةَ.

.باب: على من يجب التوقيف في الإيلاء وعمن يسقط:

قال الشافعي رضي الله عنه: "لا نعرض للمولي، ولا لامرأته حتى يطلب الوقف... إلى آخره".
9451- إذا آلى الرجل عن امرأته، فلا طَلِبة في الأربعة الأشهر، فإنه مُمَهَّل فيها، فإذا انقضت، فلها رفع زوجها إلى مجلس القضاء، ولو لم تطلب حقها، فلا معترض عليها؛ فإنها صاحبة الحق، وهذا يؤكد أن الزوج لا يطالَب بالتعيين، فإن النكاح قائم.
وينفصل هذا عن صورة الإبهام انفصالاً بيّناً، فإن الخلاف فيه إذا طلبت المرأتان التعيين لتتوصل صاحبة الحق إلى طلب حقها، فلو انقضت المدة، فذكرت أنها راضية بالمقام تحت زوجها المولي مع استمراره على الإضرار بها، فمهما أرادت المرأة أن تعود إلى الطلب، كان لها العَوْد، وهذا كما إذا أثبتنا لها حقَّ الفسخ لسبب الإعسار بالنفقة فرضيت بمصابرة زوجها على الضُرّ والعسر، ثم بدا لها، فأرادت العَوْد إلى الفسخ، فلها ذلك.
ولو ثبتت العُنّة وانقضت المدّة المضروبة أجلاً للعنّين، فرضيت المرأة بالمقام، ثم أرادت أن تفسخ، فليس لها ذلك، وإنما فرضنا الكلام في العُنة عند قصد الاستفراق، لأن العنة من وجهٍ ليست عيباً محضاً، فيقال: الرضا بها رضاً بالعيب، والدليل على ذلك أن الزوج لو اعترف بالعنة في ابتداء المرافعة، فإنا نمهله مع ذلك سنة، ومع ما ذكرناه من الفرق ما أجريناه من أنها إذا رضيت بمصابرة الزوج على الضرار، فليست راضيةً بصفة كائنة، وإنما تُسقط حقها في الحال، فإن تعرضت للإسقاط في المستقبل، كانت مسقطة حقّاً لم يدخل وقته، وإسقاط الحق قبل ثبوته غيرُ سائغ، وكذلك القول في رضا زوجة المعسر بمصابرة العُسر، والتعذر في النفقة يتعلق بحق النفقة، والنفقةُ تجب شيئاً شيئاً.
كذلك مطالبة الزوج بالفيئة تتعلق بطلب الوقاع، وهو مرتبط بما سيكون من الاستمتاع في مستقبل الزمان، وأما العُنّة؛ فإنها عيبٌ، فإذا رضيت به، لم تجد سبيلاً إلى الرجوع؛ فإن العنة خصلةٌ واحدة.
فإن عورضنا، وقيل لنا: العسر والضرارُ في النفقة والوطء في حكم الخصلة الواحدة، قلنا: ليس الأمر كذلك؛ فإنه منبسطٌ على الأوقات لتعلقه بالحقوق المتجدّدة على مرّ الأوقات، وإذا حُقّق العُسر، لم يكن له معنىً إلا عدم النفقة، وليس ذلك صفة ثابتة، بخلاف العُنّة؛ فإنها عجزٌ.
9452- ثم حق المطالبة في الإيلاء لا يثبت إلا للزوجة، فإن كانت من أهلها، فالأمر مفوّض إليها، وإن كانت صغيرة، لم ينب عنها وليها، كما ذكرناه في باب العنة، وحق الطّلب للأمة المنكوحة دون مولاها، والقول في حق الفسخ إذا أثبتناه بعذر الإعسار قد يَدِق مُدركه إذا قلنا: حق الفسخ للأمة دون المولى، مع تعلق هذا بصلاح مِلْك المَوْلَى؛ فإن الزوج إذا لم ينفق، احتاج السيد إلى الإنفاق استبقاءً للملك، ومع هذا لم يُثبت الأصحاب له حقَّ الفسخ، وفي هذا مباحثة وتشعيبٌ للكلام سنذكره في كتاب النفقات، إن شاء الله عز وجل.
9453- ثم ذكر المزني فصولاً قدمنا ذكرها، فنرمز إليها للجريان على ترتيب (السواد): منها: أن الإيلاء إذا كان معقوداً على مدةٍ، فحقها أن تكون زائدةً على الأربعة الأشهر، خلافاً لأبي حنيفة، وسبب الخلاف تباين المذهبين في وضع الإيلاء، فإن وضعه عند الشافعي على أن المولي يُمهَل حتى يرجع عن المضارّة في المدة المعلومة، والمدة بجملتها له؛ فإنها مَهَلُه وأجلُه، وليس الإيلاء طلاقاً، وإنما هو إظهار مضارة، فإذا انقضت المدة، تحقق إصرارٌ على المضارّة فتتوجه عليه الطّلبة، ولابد من فرض الطَّلِبة وراء المدة، ولابد للطَّلِبة من مدّة، فهذا عقد مذهب الشافعي رضي الله عنه.
وأبو حنيفة جعل الإيلاء طلاقاً معلقاً بانقضاء مدةٍ، فاكتفى بأربعة أشهر.
ثم الأمر الخارج عن كل معقول قضاؤه بأن الطلاق الواقع بائن، ولعله صار إلى هذا من جهة تخليصها؛ فلا تخليص إلا بالبينونة، والرجعية مستحلّة عنده.
9454- ومما ذكره المزني: "أنه إذا حلف بطلاق امرأته أنه لا يطأ الأخرى، فهو مولٍ" في الجديد، ثم القول في تفاصيل المسألة وما يتعلق بها من التفريع على قَوْلَيْ عوْد الحنث مستقصىً، لا حاجة إلى إعادته على قرب العهد به.
9455- ثم قال: "والإيلاء يمينٌ لوقتٍ، فالحر والعبد فيه سواء"، وأراد بهذا أن الزوج إذا كان عبداً، فمدة إيلائه أربعة أشهر، كما لو كان حراً، وخالف في ذلك أبو حنيفة ومالك غير أن أبا حنيفة يقول: يختلف الأمر برقها وحريتها، فلو كانت حرة، فالمدة أربعة أشهر وإن كان الزوج عبداً، وإن كانت الزوجة أمة، فشهران وإن كان الزوج حراً. وعند مالك الاعتبار برقه وحريته.
وقول الشافعي: الإيلاء يمين: معناها أنها يمين عُلّقت بوقت شرعاً، فكانت كما لو علقها الحالف بالوقت، ولو كان كذلك لم يؤثر الرق والحرية.
9456- ثم ذكر اختلافَ الزوج والزوجة في انقضاء مدة الإيلاء، وأبان أن حقيقة الاختلاف في هذا يرجع إلى التنازع في وقت الإيلاء، والقول قول الزوج في وقت الإيلاء؛ فإن المرأة إذا ادعت انقضاء المدّة، و الزوج قال: بل مضى شهران، فكأنها ادّعت تقدم إيلائه وهو منكر، وقد قدمنا نظير هذا في كتاب الرجعة.
9457- ثم ذكر أنه لو آلى عن الرجعيّة، ثبت الإيلاء؛ فإن الرجعية في حكم الزوجات، وأثر هذا أنه لو ارتجعها، احتسبنا المدة من وقت الارتجاع.
ولو قال لأجنبية: والله لا أجامعك، ثم نكحها، فلو جامعها، لحنث.
ولا يكلون مولياً، وإن كان يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً؛ لأنه أنشأ الإيلاء في وقت انتفاء النكاح، وحق الطلب في الإيلاء مردّد بين الوطء والطلاق، وهذا خاصيّة الإيلاء، فلا ينعقد الايلاء في وقتٍ لا نكاح فيه، والرجعية منكوحة، أو على عُلقةٍ صالحة من الزوجية.
والذي يجب نظمُه في هذا الفصل أن الطلاق حرّمها، فاقتضى ذلك انعزالَها للعدّةِ واستبراءِ الرحم، ونصُّ الشافعي رضي الله عنه في إيجاب المهر أصدق شاهد على زوال الملك، وإن كان عُرضةَ الاستدراك، والتوريثُ أصدق شاهد في بقاء النكاح، وإن تكلفنا، قلنا: الإرث يستقلّ بعُلقة ثابتة؛ فإنه لا يجري إلا بعد النكاح.
وكأنا نقول: ليست البائنة على عُلقةٍ من النكاح، وعِدّةُ البينونة ليست من علائق النكاح، ولهذا لا تثبت فيها النفقة للحائل، والرجعية على علقة من النكاح، ولهذا تستحق النفقة، ويحرم نكاح أختها في عدتها، ونكاح أربعٍ سواها للعُلقة المستقرّة في طريقةٍ، أو للنكاح القائم، وإذا كان تحريم الجمع متعلقاً بالنكاح، لم يبعد أن يتعلق بالعُلقة المختصة به.
وهذا بمثابة امتناع الإحرام بالعمرة مع ملابسة الحج، ثم المقيم بمنى أيام منى ليس في الإحرام، ولكنه في نسك تابعٍ للإحرام مُفدٍ لو تركه، فامتنع ابتداء الإحرام في الأيام المشتملة على تلك المناسك، فأما الإيلاء عن الرجعية، فمعتمده النكاح نفسه إن قلنا: إنها منكوحة أو العُلقة القائمة المسلِّطة على الرّد إلى عين النكاح الأول، وهذا لا يتحقق في البائنة.

.باب: الوقف في الإيلاء:

9458- ذكر المزني مسائل هذا الباب على غاية الاختلاط، ووقعت له غلطات في النقل والترتيب، ونحن نرى من الرأي أن نصدّر الباب بفصلين:
أحدهما: مشتمل على موانعَ من الوطء فيه وفيها، ثم القول يتردد في أحكامها على ما سنوضحه.
والفصل الثاني- في المطالبة بعد المدة وما يمنع منها.
فأما الفصل الأول
9459- فإنا نقول: الطلاق يقطع مدة الإيلاء، وإن كان رجعيّاً، فليقع الاعتناء به، ثم لا يخفى حكم الطلاق البائن، فإذا آلى الرجل عن امرأته، وخاض في المدة، ثم طلقها في أثناء المدة، انقطعت المدة، فإذا راجعها، فلا بناء على ما مضى من المدة، ويستفتح مدة جديدة بعد الرجعة، فإذا مضت، ثبتت الطلبة بعدها، ولو انقضت المدة، فطلقها، ثم راجعها ابتدأنا مدةً، فإذا مضت بكمالها، عادت الطّلِبة، وقد قرّرنا هذا وأوضحنا فقهه.
فالطلاق إذاً يقطع المدة، ويُسقطُها حتى لا يُفرض البناء على السابق منها، فإذا جرى بعد المدة، ثم فرضت الرجعة فالإيلاء قائم، ولكن لابد من افتتاح المدة مرة أخرى.
9460- والردة إذا فرضت في ممسوسة أو في زوجها، فهي كالطلاق الرجعي في جميع ما ذكرناه، فتقطع المدةَ قَطْع إسقاطٍ يمنع البناء، وإذا زالت الردّة في مدة العدة، فلا بناءَ، بل نبتدىء المدّة.
وهذا متفق عليه بين الأصحاب، وإن كنا نبيّن أن الرّدة إذا زالت قبل انقضاء العدة، فكأن النكاح لم ينخرِم، بخلاف الطلاق؛ فإن الواقع منه لا يزول بالرجعة، ولكن لما كانت الردّة مؤثرة على الجملة في إزالة الملك، كانت قاطعة للمضارة بترك الوطء، والتعويل على إظهار المضارّة، فإذا فرض عودٌ، فهذا جرى قبل انقطاع قصد المضارة بترك الوطء مع استمرار الحِلّ.
وليست الردّة كالإحرام؛ فإنه ليس إعراضاً عن النكاح؛ إذ النكاح في أصل الوضع يدوم معه، وهذا الفقه واقعٌ لمن تأمل.
وإذا انقضت مدة الإيلاء، فارتدّ أحد الزوجين، ثم زالت الردّة، واستمر النكاح، كان ذلك بمثابة الطلاق الرجعي إذا طرأت الرجعة بعده، فلابد من استئناف مدة، وهذا من المسائل التي تُحفظ في هذا الكتاب، وهي: مولٍ يتجدد إيلاؤه، ولا يطرأُ طلاقٌ ولا فيئة، فتنقضي أربعة أشهر فنضرب أربعة أخرى، وذلك إذا آلى، فمضت المدة، فارتد أو ارتدت، ثم فرض العود على الفور.
فهذا بيان الطلاق والردة.
9461- فأما ما عداهما من الموانع، فينظر فإن كان فيه كمرضٍ أو غيره من حبسٍ، أو غَيْبة، والموانع فيه تنقسم إلى الحسيّ والشرعي فالحسية منها ما ذكرناها وأمثالها، والشرعية كالإحرام والظهار ونحوهما، وكل مانع في جانبه فلا يمنع الاحتساب بالمدة، فإذا طرأت هذه الموانع في وقت الطّلبة، فسنذكر في الفصل الثاني تحصيلَ القول في الطلب، وغرضنا الآن مقصورٌ على الكلام في انقطاع المدة واستمرارها، فإذا اطردت الموانع عليه بعد المدة، ثم زالت، حقَّت الطلبة، وإذا كانت لا تقطع المدة لا توجب ابتداء المدة.
9462- فأما إذا كانت الموانع فيها، فهي تنقسم إلى الطبيعية والشرعية، فإذا كانت محبوسة أو مجنونة لا يتأتى غشيانها، أو كانت من الصغر بحيث لا تحتمل الجماع، أو امتنع وقاعها للدَّنَف أو الضِّنى، أو نشزت وامتنعت من التمكين، فجملة هذه الموانع تقطع المدة، وتمنع الاحتساب بها معها، وإذا اقترنت بالإيلاء، لم نبتدىء المدّة.
والسبب فيه أن الإيلاء إظهار الضرار بالامتناع عن وطئها إذا لم يكن فيها مانع، وإذا كان وأمكنت الإحالة على ما فيها من المانع، فلا وجه لتحقيق المضارة.
ثم هذه المعاني فيها إذا طرأت وقطعت المدة، ثم زالت، فهل تُستأنف المدة أم يُبنى عليها؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يبنى عليها، حتى لو كان طرأ مانع فيها بعد مضي ثلاثة أشهر ثم زال، فلا مهل أكثر من شهر.
والوجه الثاني- تستأنف المدة بعد ارتفاع العوارض أربعة أشهر.
توجيه الوجهين: من قال بالبناء، قال: لم يطرأ ما يخرم الملك، ولكن امتنع الاحتساب بالمدة؛ إذ لا تمكين، فإذا زال المانع، فليس إلا استكمال المدة.
ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن المضارة إنما تتحقق إذا تتابعت أزمانها، ولم نجد لها مستنداً إلا امتناع الزوج، وهذا يوجب افتتاح المدة.
ولو طرأت هذه الموانع بعد المدة، فلا شك أنها لا تطالِب مع قيام المانع، فإذا زال، فهل يعود الطلب أم نبتدىء مدةً؟ المذهبُ المبتوت أنها تعود إلى الطلب؛ فإن المضارة قد تحققت وِلاءً في أربعة أشهر، وليس كما لو طرأ المانع على المدة.
وأبعد بعض الضَّعفة، فقال: إذا قلنا: تستأنف المدة، وقد طرأ المانع على المدة، فكذلك تستانف المدة إذا طرأ المانع بعد المدّة وزال.
هذا عقد المذهب في الموانع القاطعة والمانعة.
9463- ونحن نذكر بعد ذلك قولاً غريباً حكاه صاحب التقريب، وغلطاً للمزني في النقل، ومباحثةً تتعلق بتعليل المذهب.
فأما ما حكاه صاحب التقريب، فقد نقل قولاً غريباً عن البويطي عن الشافعي رضي الله عنه: أن الزوج إذا كان متمكناً من الوطء في ابتداء المدة، ثم طرأ مرضُها بعد مضي زمان الإمكان، فهذا لا يمنع احتساب المدة، ولو كانت مريضة مع ابتداء المدة مرضاً مانعاً، فلا تحتسب المدة حينئذ؛ فإنه أنشأ اليمين وهو يصادف منها مانعاً، فأما إذا عقد اليمين على المضارّة والتمكينُ مقترن، فلا التفات على ما يطرأ.
وهذا غريب لا تعويل عليه.
9464- وأما غلط المزني فقد نقل: "أن المولي إذا حُبس، لم تحسب عليه المدة، زمانَ حبسه، ثم اعترض، فقال: قد نص على أنه لو مرض مرضاً مانعاً، حسب عليه المدة، فزمان حبسه بذلك أولى".
فقال الأصحاب: الخطأ منك في النقل، وإنما تعترض على نفسك، وقد صادف الأصحاب نص الشافعي في كتبه جازماً بأن مدة حبس الزوج محسوبةٌ.
9465- وأما المباحثة فلو قال قائل: إذا تحقق المانع في الزوج، فهلاّ عُذر؛ فإن المعتمد إظهار الضرار، وإذا تحقق المنع فيه، لم تظهر المضارة.
ولم يصر أحدٌ من الأصحاب إلى تصديق المزني في نقل نصِّ الحبس ونصِّ المرض على مناقضته، والمصيرِ إلى إجراء القولين بالنقل والتخريج، ولو قال قائل بذلك، لكان قريباً، ولكن التعويل على النقل.
والممكن في الانفصال عما ذكرناه أن الإيلاء صدر منه، فإذا انقضت المدة والمانع قائم، فلسنا نردده بين الوطء والطلاق، بل نكتفي منه بالفيئة باللسان، كما سنصفه على أثر ذلك، فليفىء بلسانه، فإن هذا لا امتناع فيه، وإذا كان الإيلاء ينعقد والمدة تجري، والمطلوب بالأَخَرة اللسانُ، فلا تنقطع المدة على هذا القياس وطريان المانع على الزوج، ولا يمتنع ابتداء المدة باقتران المانع به.
فأما إذا كان المانع فيها، فليس من جهته أبداً مضارّة، وليس تخلو محاولة الفصل بين المانعين عن إشكال لا يخفى دركه على الفهم المنصف.
وقد نجز تفصيل القول في الموانع.
الفصل الثاني
فأما الفصل الثاني وهو الكلام في المطالبة بعد انقضاء المدة.
9466- فإذا لم يكن مانع، وأرادت المطالبةَ بعد المدة، ورفعت زوجَها إلى القاضي وطالبته، فإن فاء، فذاك، وإن امتنع، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن القاضي يطلق عليه زوجته، إذا تحقق الامتناعُ منه، إلا أن يبتدر هو فيطلق؛ والسبب فيه أن الغرض دفع الضرار، وحكم الشرع أن الممتنع عن الحق المتعيَّن عليه يُستوفى منه الحق بقهر الولاية إذا أمكن، واستيفاءُ الفيئة منه غير ممكن، وترك المرأة تحت المضارّة غيرُ ممكن، وهذا لا وجه له، فالطريق أن يطلقها، ويخلّصها من دوام المضارّة، وهذا أظهر القولين، وهو المنصوص عليه في الجديد.
والقول الثاني- أن القاضي لا يطلق، بل يضيق الأمر عليه بالحبس حتى يطلق.
ونصَّ الشافعي في هذا القول على أن القاضي لو أراد أن يعزره، لكان له ذلك، فإنه قادرٌ على التطليق وتخليص المرأة، معاندٌ بترك الطلاق الذي يُدعى إليه.
قال المزني: لم يذهب إلى هذا أحد من العلماء، وبالغ في تزييفه واختار القول الأول، وهو المختار.
وقد ذكرنا أن المنصوص عليه في القديم في حكم المرجوع عنه.
9467- ولو لم يمتنع الزوج عن الفيئة ولكن استمهل، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فقال بعضهم: لا نمهله مَهَلاً معتبراً به مبالاة، فنقول له: قد أمهلناك أربعة أشهر، فلا نزيدك أجلاً آخر، ثم هؤلاء لا يكلّفونه القيام إليها على الفور؛ فإن الفحل المتشوف إلى الوقاع قد لا توافقه الطبيعة في التسرّع إلى الوطء على هذا الحد، ولكن يقال له: شمّر وتهيأ، ولك الفسحة ريثما تثوب بسطتُك وتنهض شهوتك، وهذا قد يتأتى في نصف يوم.
قال أصحابنا: أو في يوم، وعندنا أن الليلة تتبع اليوم؛ فإن المدافعة إلى مجلس الحكم ليلاً غيرُ مألوفة، فإن فاء، فذاك، وإن لم يفىء، وفرعنا على الصحيح، ابتدرنا الطلاق؛ فإنه لو استمهل في اليوم الثاني، لتوجّه هذا في الثالث.
هذا مسلك بعض الأصحاب.
ومن أصحابنا من قال: إذا استمهل نُمهله ثلاثةَ أيام، والاختلاف في ذلك يقرب من القولين في استتابة المرتد، غير أنا وإن أمهلنا المرتد، فلو ابتدره مبتدر وقتله، لكان هَدَراً، وإذا أمهلنا الزوج، فلو ابتدر القاضي وطلّق قبل انقضاء المدة-وهي ثلاثة أيام- لم ينفذ طلاقه، وهذا لا شك فيه إذا انقضت منه الفيئة في المدة بعد طلاق القاضي، فأما إذا طلق القاضي، ثم بان أنه لم يفىء في الأيام الثلاثة، فالظاهر أن الطلاق لا ينفذ، وفيه شيء.
وهذا عسر التصوير؛ فإن طلاق القاضي قد يستند إلى رأيه في أنْ لا إمهال، فإذا كان كذلك، ينفذ؛ اتّباعاً للاجتهاد، فإذا نفذ الطلاق، حمل ذلك منه على القضاء به.
وكل ذلك والزوج يَستمهِل، فأما إذا أبدى الإباء، فيبتدر القاضي، ويطلّق.
9468- ولو قالت المرأة: لست أبغي الطلاق، وإنما أطالب بالفيئة، فالقاضي هل يطلق، وهي لا تطلب الطلاق، بل تأباه وتبغي أن يَحبس الزوجَ ليطأ، فليس لها ذلك؛ لأن توحيد جهة الطلب في الفيئة تكليفُ شطط؛ فإن النفس قد لا تطاوع، ولولا ذلك، لثبت للمرأة مطالبةُ الزوج بحق المستمتع، كما يثبت له مطالبتُها بالتمكين.
فإذاً لا يصح منها الطَّلِبة إلا مردّدةً بين الوطء والطلاق، وإذْ ذاك تكون مطالِبةً بممكن، وهذا على ظهوره لا يضرّ ذكره؛ فإنها طَلِبةٌ لا نظير لها في الشرع، مبناها على التردد، وإذا كان لا يصح منها الطلب إلا مردّداً، فإذا امتنع الزوج من الفيئة، تعيّن الطلاق، فإن أبت، فقد تركت الطلب، ولا يتصوّر حبسٌ لأجل الفيئة المجردة قطّ.
فهذا الذي ذكرناه بيان قاعدة المذهب، حيث لا مانع طبعاً وشرعاً، لا فيه ولا فيها.
9469- فأما إذا فرض مانع، فلا يخلو إما أن يكون المانع فيه أو فيها، فإن كان المانع فيه، لم يخل ذلك المانع من أن يكون طبيعياً أو شرعيّاً:
فإن كان طبيعيّاً، كالمرض وما في معناه، فالطلبة تتوجه، والمطلوب منه الفيئة باللسان، ووجهه أن يعترف بالإساءة، ويَعِدُ بالفيئة عند القدرة-وسنشرح فيئة اللسان بعد هذا- هذا فيئة اللسان، فليأت بها، أو يطلق، أو تطلّقُ عليه زوجته، ولو استمهل، فلا مَهَلَ؛ فإن اللسان منطلق بما ذكرناه، وإن قال: لست أنطق بموعد ولكن أخروني إلى الاقتدار، فلا نسعفه، ولا ينبغي أن يستبعد الفقيه مطالبته بفيئة اللسان؛ فإن أداة الإيذاء اللسان.
ثم إذا زال المانع، حقّت الطّلبة بالفيئة نفسِها، فلو استمهل إذ ذاك، عادت التفاصيل في الاستمهال، كما تقدم، هذا جارٍ في مسائل-يعني الإمهالَ ثلاثة أيام- استتابة المرتد، وقتل تارك الصلاة، والفسخ بالإعسار بالنفقة، والفسخ بسبب العُنة، وخيار العتق، والأخذ بالشفعة، فهذه سبع مسائل، والردُّ بالعيب على الفور بلا خلاف، ولا مَهَلَ فيه مع التمكن.
هذا كله إذا كان المانع طبيعياً.
9470- فأما إذا كان المانع شرعياً: مثل أن يكون الزوج مُحرماً، أو مظاهراً، فلا نقنع بفيئة اللسان؛ فإن الوطء ممكن حسّاً، ولا نستجيز أن نقول: جامعها، والطِّلِبةُ بالطلاق المجرد لا سبيل إليها، فالوجه أن نقول: أنت صنعت على نفسك، فإن جامعتها أسأت وأفسدت العبادة، أو ارتكبت محرّماً في الظهار، وإن تحرّجت وامتنعت، طلقنا عليك زوجتك.
وسنعقد في الموانع الشرعية فصلاً في أثناء الباب-إن شاء الله- وهو ممثّل بمسألة الدجاجة واللؤلؤة، كما مضى ذكرها في كتاب الغصب.
ولو كان يتحلل عن إحرامه في ثلاثة أيام، ورأينا أن نمهله ثلاثة أيام، فالوجه إسعافُه، ولا طريق غيرُه.
ثم إذا تحلل بعد الأيام الثلاثة، فلهذا الطرف اختلاج في النفس: يجوز أن يقال: يترك حتى ينشطَ نشاطَه وتنهضَ شهوتُه، ويجوز أن نقول: إن لم يبتدر، طَلَّق عليه زوجتَه إن طلبت، وهذا فقيه حسن.
والفرق بين المانع الشرعي والطبيعي أن الوطء غير ممكن وجوداً مع الموانع الطبيعية، وهو ممكن مع الموانع الشرعية، والزوج منتسب إلى التضييق على نفسه بإدخال الظهار على الإيلاء، أو بإدخال الإيلاء على الظهار، ولا نأمن أن يكون جمعه بين الأمرين نكداً، فإنهما جميعاًً متعلقان باختياره.
9471- ولو كانت المرأة حائضاً بعد المدة، لم تملك المطالبة ما استمر الحيض؛ فإن المانع فيها محقق، والحيض لا يتضمن قطعَ المدة وفاقاً، فإنه في غالب العادات يكُرّ على المرأة مراراً في أربعة أشهر، ولو كانت قاطعةً للمدة قطعاً يقتضي استئنافاً، لما انقضت مدة الإيلاء غالباً على ذات أقراء، وإن كانت تقطع ولا تقتضي استئنافاً، وذلك غالب فيهن، لوقع التعرض له في الكتاب أو السنة، فإن جرى ذكر أربعة أشهر من غير تعرض للحيض، دلّ على أنه لا اعتبار به في المدة، والحيض لا يقطع تتابع صيام الشهرين، فلأن لا يقطع تتابع الأربعة الأشهر أوْلى؛ فإن المعتمد في أنه لا يقطع تتابع صيام الشهرين أنه يغلب وجودُ الحيض في مدة الشهرين.
ولو كانت مُحْرمةً أو صائمة صوم فرض، وذكرت ذلك لنا، وأرادت مطالبة الزوج بالفيئة أو الطلاق، فليس لها ذلك اعتباراً بالحيض.
وكذلك لو كان فيها مانع طبيعي، فلا معنى لمطالبتها، ولا تملك المطالبة والمانع فيها بفيئة اللسان.
9472- ثم قال: "ولو كان بينها وبينه مسيرة أربعة أشهر... إلى آخره".
إذا غاب المولي، وكان بينه وبين المرأة مسيرةَ أربعة أشهر، وكان مع الزوج وكيل من جهة المرأة بالخصومة، فلما انقضت أربعةُ أشهر والغيبةُ مانع فيه، فإنه أنشأها إذا غاب عنها، فالزوج مطالب بالفيئة باللسان عند مسألة الوكيل، فإن فاء باللسان، وأخذ في المسير نحوها، فذاك، وإن لم يأخذ في السير حتى مضى زمان الإمكان، فالحاكم يطلّق عليه-على القول الجديد- بمسألة الوكيل، أو يضيق الأمر عليه حتى يطلق بنفسه على القول الآخر.
وإذا انقضى زمان الإمكان وتوجّه الطلب من الوكيل، فقال الزوج: أبتدىء الآن في المسير، فلا يَلتفت إلى قوله ويَحبسه، أو يُطلِّق عليه.
وقد نجز الكلام في الفصلين: فصل الموانع، وفصل المطالبة، وأدرجنا في أثناء ما ذكرناه مسائل من الباب وتنبيهاتٍ على غلطات المزني في النقل.
9473- وكان شيخي يقول: الصوم منها لا يقطع المدّة، ولا يمنع الاحتساب.
وهذا فيه نظر، فإن كانت تصوم تطوعاً، فالأمر كذلك؛ فإن الزوج يغشاها ولا يبالي بصومها، وإن كانت تصوم الفرض في رمضان وهو من الأشهر، فهو محسوب؛ فإن في الليالي مقنعاً، ولابد لها من الصوم.
ولو كان عليها قضاء، والقضاء على التأخير، فإذا أرادت تعجيله من غير إذن الزوج، فهل لها ذلك؟ فعلى خلافٍ بين الأصحاب، وكذلك لو أرادت المرأة إقامة الصلاة في أول الوقت، والرجل يبغي منها مستمتعاً في ذلك الوقت، ففي المسألة اختلاف.
وكذلك لو كانت مستطيعةً، فأرادت أن تحج حجة الإسلام، والزوج يبغي أن تؤخر، ففي المسألة اختلاف.
والمسائل متناظرة، فمن اعتبر رضا الزوج تمسك بأنه لا حرج عليها في التأخير، وحق الزوج مُضيِّق عليها، ومن جوّز لها التعجيل قال: النكاح للأبد، والموت منتظر، ولا ثقة بالعمر.
فإن قلنا: ليس لها أن تصوم دون إذنه، فإذا أخذت تصوم، فهي كالمتطوّعة وقد سبق الكلام فيها.
وإن قلنا: لها التعجيل، ففي المسألة احتمال؛ فإنها ممتنعة على زوجها في شطر الزمان باختيارها، والأظهر أنه لا أثر للصوم، فإنا إذا جوزنا لها أن تبتدر، فليست على رتبة الناشزة، وفي الليالي مضطرب.
وإذا نشزت فنشوزها من الموانع القاطعة للمدة، ولو كان الزوج قادراً على ردّها قهراً، فلا اعتبار بذلك، بل المنع ثابت، والضرار مندفع على الوجه الذي فرضناه وبنينا الباب عليه.
9474- ثم ذكر الشافعي: "أنهما لو اختلفا في الإصابة، فزعم الزوج أنه أصابها وأنكرت المرأة، فالقول قول الزوج".
وهذا مما ذكرناه في كتاب النكاح، ولكن نعيد ذلك الأصلَ لمزيد فائدة فنقول، مهما وقع النزاع في إثبات الإصابة ونفيها، فالقول قول النافي إلا في مسائل:
إحداها- إذا ضربت مدة العنة، فلما انقضت زعم الزوج أني وطِئتُها، أو قال في ابتداء الأمر: أنا الآن عنين، ولكن قبل هذا وطئتها، فلا تضربوا المدة، فالقول قول الزوج مع يمينه، وقد قدمنا هذا وعللناه.
9475- ومن المسائل اختلاف الزوج المولي مع المرأة، وهذه مسألة الكتاب، فإذا جعلنا القول قولَ الزوج في إثبات الوطء مع يمينه، فإن حلف على ذلك، ثم إن الزوج طلقها، وأراد ارتجاعها، فإنه قد وطئها بزعمه.
قال ابن الحداد: ليس له أن يرتجعها؛ فإنا وإن جعلنا القول قولَه في إثبات الوطء ابتداءً، فهذه خصومة أخرى وقضية أخرى، فالقول في ذلك قولها مع يمينها، فتحلف، وتنتفي الرجعةُ عنها، كما لو كانت الخصومة ابتداء في الرجعة؛ فإن الزوج لو طلق امرأته، ثم زعم أنه كان وطئها، فيرتجعها وأبت المرأة، فالقول قولها، فإنه لا يلزمها عِدّةٌ لقول الزوج؛ فإذا لم تثبت العدةُ، لم تثبت الرجعة.
فإن قيل: هذا يُبطل معوَّلكم في أن الأصل بقاء النكاح، وعليه يتم تصديق الزوج في مسألة العُنّة والإيلاء؛ فإن كان الأصل عدمَ الوطء. قلنا: إنما يصدق الزوج والنكاحُ قائم، وإذا طلق، فالطلاق يحل النكاحَ، وهو في إثبات المستدرك مدعٍ.
قال الشيخ: من أصحابنا من ذكر في صورة ابن الحداد وجهاً أن الرجعة تثبت؛ فإنا صدقنا الزوج في إثبات الوطء في خصومةٍ وقوّينا جانبه واعتضد هذا أيضاًً باستبقاء النكاح، وهذا ضعيف لا تعويل عليه.
9476- والمسألة الثالثة- أن يخلو بها وقلنا: الخلوة لا تقرر المهر، فإذا ادّعت الوطء، فهل نصدقها؟ فيه قولان ذكرناهما.
9477- والمسألة الرابعة- أن تدعي المرأةُ الوطءَ من غير خلوة تبغي تقريرَ المهر، فإذا أنكر الزوج، فالقول قول الزوج في نَفَي الوطء، فلو أتت بولدٍ لزمان يلحق الزوجَ، فإنْ نَفَى الولدَ باللعان، فالذي سبق من نفي الوطء على ما سبق، والقول قول الزوج، كما مضى، وإن لم ينفه باللعان ولحقه الولد، فهل نقول الآن: القول قول المرأة؛ إذ قد ظهر تقدم وطء منه بلحوق الولد؟
ما نقله المزني: أنا نجعل الآن القولَ قولَها في إثبات الوطء مع يمينها، فتحلف وتستحق المهر كَمَلاً.
قال الشيخ رضي الله عنه: نقل الربيع ما نقله المزني، ونقل قولاً آخر: أن القول قول الزوج؛ فإنها قد تَحْبَل من استدخالٍ من غير وطء.
واختلف أصحابنا على طرق: فمنهم من قال: في المسألة قولان، ومنهم من قطع بما نقله المزني، وزيف القول الثاني، وجعله من تخريج الربيع، ومنهم من قال: المسألة على حالين: حيث قال: القول قولها: أراد إذا نشأ الاختلاف بعد الولد ولحوقه، فالقول قولها إذ الظاهر معها، والاستدخال بعيد، وإن اختلفا قبل الولد وظهور أمره وحلّفنا الزوجَ، فقد تمت الخصومة ونفذت، فلا نجعل القول قولها.
ومن سلك طريقة القولين أجراهما في الحالين، قال الشيخ: الأصح من ذلك كله القطع بما نقله المزني في الأحوال كلها.
9478- ثم ذكر المزني أنه يخلص عن عهدة الإيلاء بتغييب الحشفة، وهذا كما ذكرناه من قبل، وإن كانت المرأة بكراً، فلابد من إزالة العُذرة، وهي تحصل بتغييب الحشفة لا محالة، فلو ادعى العجز عن الافتضاض، كلفناه الفيء باللسان في الحال، وضربنا له مدة العُنة، ثم أجرينا حكم العِنِّين، كما مضى مفصلاً.
9479- ثم قال: "لو أصابها وهي مُحْرِمة... إلى آخره".
إذا أصاب الرجل امرأته وهي مُحْرِمة، وكان قد آلى، فقد حصلت الفيئة، ولا نظر إلى انتسابه إلى العصيان بعد حصول الوطء، وانحلال اليمين.
فصل:
قال: "ولو آلى ثم جن... إلى آخره".
9480- إذا آلى الرجل، ثم جن، ووطىء في حالة الجنون، فالمنصوص عليه أنه لا يحنث؛ فلا كفارة عليه وخُرِّج فيه قولٌ آخر: أن الكفارة تلزمه، من حِنْث الناسي، وهذا له التفات على أن المجنون إذا قتل صيداً في الحرم، فهل يلتزم الفدية؟ وفيه قولان.
ومما نذكره أن المولي إذا أُكره على الوطء، فوطىء مكرهاً، قال الشيخ: في وجوب الكفارة على المكره قولان مشهوران، فإن قلنا: إن الكفارة تلزمه، فلا شك في حنثه وانحلال يمينه، فإن قلنا: إن الكفارة لا تلزمه، فهل نقول: يحنث وينحل يمينه؟ فعلى وجهين ذكرهما رضي الله عنه، وهذا الترتيب يجري في المجنون: فإن ألزمناه الكفارة فقد انحلت اليمين، وإن قلنا: لا تلزمه الكفارة، فهل تنحل اليمين؟ حتى إذا أفاق، فوطىء لا تلزمه الكفارة؟ فعلى وجهين.
ولا يختص ما ذكرناه بالإيلاء، ولكن كل حالفٍ وُجد منه المحلوف عليه على وجه الإكراه، وقلنا: لا يلتزم الكفارة، فهل تنحل يمينه؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه.
9481- فإذا تمهد هذا، رجعنا إلى حكم الإيلاء في المكره: فإن قلنا بانحلال اليمين، ولا كفارة، فقد ارتفع حكم الإيلاء، وإن قلنا: ما انحلت بما جرى، حتى لو وطىء مرة أخرى، يلزمه الكفارة، فهل يعود حكم الإيلاء والطلب؟ فعلى وجهين، وهما يجريان في المجنون إذا قلنا: لا تنحل اليمين بما جرى في الجنون.
توجيه الوجهين:
9482- من قال يعود الطلب، قال: لأنّ اليمين قائمة ولو وطىء الرجل بعد أربعة أشهر، التزم الكفارة.
ومن قال: لا يعود الطلب، احتج بأن الضرار اندفع بالوقاع الذي جرى، فكأن الإيلاء صار منحلاً في حقها، وإن كانت اليمين قائمة.
قال الشيخ: وهذا الذي ذكرناه في صورة الإكراه مفرّع على المذهب الصحيح، وهو أن الإكراه على الوطء يُتصور.
ومن أصحابنا من قال: لا يتصور الإكراه على الوطء، ولا يوجد الوطء إلا من مختار، وهذا القائل يقول: من حُمل على الزنا بالتخويف بالقتل، فأتى بما حمل عليه، لزمه الحد.
وهذا غريب في المذهب، وإن ذهب إليه أبو حنيفة، ووجهه على بعده أن المكره هو المسلوب الاختيار الذي لم يبق له أَرَب إلا الخلاص، ومن كان كذلك لم تنبسط شهوته، ولم تطاوعه نفسه، وقد ظهر أن المرعوب لا ينتشر، والمنتشر إذا تداخله خوف فَتَر.
ثم زاد العراقيون في مسألة الجنون تفريعاً فقالوا: إذا قلنا: لو وطىء في جنونه، لم تنحل اليمين، وإذا أفاق ووطىء، لزمته الكفارة، وفرّعنا على أن حكم الطلب يعود، فلو وطىء في جنونه، ثم أفاق على الفور، فهل نقول: الطَّلِبة تتوجه في الحال، أم نضرب مدّة، ونقول إذا مضت، تجددت الطَّلِبة بعدها؟ فعلى وجهين:
أقيسهما- أنا لا نعتبر مدة أصلاً، فإنه لم يتخلل طلاقٌ ولا رِدّة، والطَّلِبةُ ثابتةٌ، وقد انقضت المدة.
والوجه الثاني- أنه لابد من مضي مدة؛ لأنه قد فاء ظاهراً، فإن لم يؤثِّر ما صدر منه في الخروج من عهدة الطلب، فلا أقل من أن يستفيد الزوج به مَهَلاً.
9483- وممّا يتعلق بما نحن فيه أن الرجل إذا آلى عن امرأته، فجاءت المرأة في نومه وصادفته منتشراً، فنزلت عليه واستدخلت ذكره، ولا عِلْم له بما جرى، فالذي نقطع به أن اليمين لا تنحلّ، فإن الذي جرى ليس بوطء، والمحلوف عليه الوطءُ، وليس هذا كوطء المكره والوطءِ في حالة الجنون.
ورأيت في بعض التعاليق عن شيخي أن من أصحابنا من جعل هذا كالوطء في حالة الجنون، حتى يُخرّجَ فيه الخلافُ المقدم في انحلال اليمين.
وهذا غلط صريح، لا يجوز التعويل عليه.
فإذا بان ذلك، فلو وطىء في يقظته، لزمته الكفارة، وهل لها مطالبة الزوج؟ فعلى وجهين كالوجهين في المجنون إذا قلنا: وطؤه في الجنون لا يحل اليمين.
9484- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "والذمي كالمسلم فيما يلزمه من الإيلاء... إلى آخره".
الذمي من أهل الإيلاء، فإذا ارتفع إلينا، ونزل على حكمنا، فحُكمنا عليه كحُكمنا على المسلم، فتتوجه عليه الطَّلِبة، وإذا فاء، لزمته الكفارة، وأبو حنيفة لم يجعله من أهل الظهار؛ من حيث لم يكن عنده من أهل الكفارة، وجعله من أهل الإيلاء، وإن لم يكن عنده من أهل الكفارة، والمسلم إذا آلى، وفاء، لزمته الكفارة عند أبي حنيفة والإيلاء لا يختص عنده باليمين بالله.
ولو قال لامرأته: إن وطئتك، فعبدي حر، ثم مات ذلك العبد المحلوف بعتقه، انحلت اليمين لمّا عَرِيَتْ الواقعة عن التزامٍ عند تقدير الوطء، وهذا تناقض منه بَيّن.
9485- ثم قال الشافعي: "العربي لو آلى بلسان العجم... إلى آخره". إذا آلى الأعجمي بلسان العرب، فإن كان يحسن العربية فهو كالعربي، فلو زعم أنه لم يفهم معنى الكلمة التي تلفظ بها، وكانت الحالة تكذّبه، فهو مكذَّب، وإن كان الأمر محتملاً، فالرجوع إلى قوله مع اليمين.
وكذلك العربي إذا نطق بلسان العجم، وما ذكرناه جارٍ في كل من نطق بلغة غيره.
فصل:
كنا وعدنا أن نتكلم في الموانع، الشرعية إذا اتصف الزوج بها، عند انقضاء المدة، وهذا وإن سبق استيفاء القول فيه، فقد رأيت للعراقيين ترتيباً حسناً، فرأيت اتخاذه قدوة في الفصل.
فإذا آلى الرجل عن امرأته، ومضت الأشهر، وكان الزوج محرماً أو مظاهراً، فلا شك أنه لو وطىء عَصى ربَّه، وإذا توجهت عليه الطَّلبة-وهو موصوف بمانع محرِّم- فلو قال: أنا أفيء على ما بي من المانع، فقالت المرأة: لا أمكنه من الوطء، فهل تُجبر على التمكين؟
فعلى وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنها لا تجبر على التمكين إذا دعاها الرجل إلى التمكين، بل لها الامتناع؛ فإنه إذا كان يحرم عليه أن يغشاها، فالتحريم متعلق بها، ويجب من ثبوته في حقه أن يحرم عيها التمكين؛ إذ لا يتصور ثبوت التحريم إلا متعلقاً بهما، فأشبه ما لو طلقها طلقة رجعية، وقضينا بتحريمها، فلو أراد الزوج أن يغشاها، فلها الامتناع، بل عليها الامتناعُ حتى يرتجعها، وكذلك إذا كانت حائضاً، فلها منعُ نفسها عن زوجها، وكذلك لو كانت مُحْرمة، أو صائمة.
والوجه الثاني- أنه ليس لها أن تمتنع؛ فإنه لا حرمة فيها، وهي في نفسها على صفة الاستباحة، وليس لها أن تنظر في حال الزوج، وتتصرف فيما يحرم عليه ويحل له.
ومن أصحابنا من فصل بين أن يكون الزوج مظاهراً، وبين أن يكون صائماً، أو مُحْرماً، فقال: لها أن تمتنع إذا كان الزوج مظاهراً، وليس لها أن تمتنع إذا كان الرجل محرماً أو صائماً.
9486- وحاصل المذهب أن المطلّقة تمتنع؛ لأن الطلاق واقع بها، وإذا كان الرجل مُحِلاً وهي مُحرمة، امتنعت، وكذلك لو كانت صائمة صياماً لا يجوز إفساده عليها، فمهما تحقق سبب التحريم فيها على الاختصاص، امتنعت، وإذا ظهر تعلق السبب بها كالطلاق، فإنها تمتنع من التمكين.
وإن اختص الزوج بالسبب المحرِّم، كما إذا كان مُحرماً أو صائماً صوماً لا يجوز إفساده، فهل تمتنع من التمكين، أو ليس لها الامتناع؟ فعلى وجهين.
وإذا ظاهر عنها الزوج، فهذا مردّد بين الطلاق وبين الإحرام، وجه مشابهته للطلاق أن الظهار يحرّم المرأةَ كالطلاق، ووجه مشابهته للإحرام أن الظهار لا ينقصُ ملك الزوج، ولا يخرم حقّه فيها، ولكنه لما قال زوراً وكذباًَ، عاقبه الشرع بتحريم الغشيان عليه.
واختيار الشيخ أبي حامد أن الزوج إذا كان محرماً أو صائماً، فليس لها أن تمتنع عن التمكين وجهاً واحداً، وإنما الوجهان في الظهار.
ثم مهما قلنا: إنها تمتنع، فحقٌّ عليها أن تمتنع، وإذا قلنا: لا تمتنع، فحق عليها أن تمكن إذا دعاها زوجها.
9487- فهذا أصل قدمناه على غرضنا من الإيلاء، ونحن نبني عليه غرضنا من الإيلاء، فنقول: إن ألزمنا المرأةَ أن تمكن، فإن مكنت، فذاك، وإلا يسقط طلبها في الوقت، وليس لها أن تقول: لا أمكِّن وأطلبُ الطلاقَ.
وإن قلنا: لها أن تمتنعَ ولا تُجبرَ على التمكين، فإن مكنت ولم يطأها، فيطالب بالطلاق أو تطلّق عليه زوجته.
وإن أبت ولم تمكِّن، وطلبت الطلاق، وقلنا: لها الامتناع من التمكين، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنها لا تطلب الطلاق، بل يفيء فيئة معذور إلى زوال العذر، كما ذكرناه في المانع الحسي، فأشبه ما لو لم يكن مانع، فنشزت أو مرضت.
والوجه الثاني- أن الزوج يجبر على الطلاق أو يطلّق عليه؛ فإنه هو الذي ضيق على نفسه هذا التضييق.
هذه طريقة العراقيين وهي على نهاية الحسن.
9488- وأما أصحابنا المراوزة؛ فإنهم لم يتعرضوا لوجوب التمكين عليها أو لتحريمه، بل اقتصروا على قولهم: نقول للرجل: إن وطئت عصيت، وإن لم تطأ، طلقنا عليك زوجتك، وهذا لا يستقل ما لم نفصِّل المذهب على نحو ما ذكره العراقيون.
فصل:
قال: "ولو آلى، ثُم آلى، فَحَنِث في الأولى... إلى آخره".
9489- إذا تكررت كلمة الإيلاء من الزوج: بأن قال لها: والله لا أطؤك والله لا أطؤك، حتى كرره مراراً، فألفاظه لا تخلو إما أن تكون متواصلة، وإما أن يتخلل بينها فصول، فإن كانت متواصلة، وزعم أنه نوى تكرار الألفاظ وتأكيدَ المعنى بها، ولم يرد تجديداً، فهو مصدق؛ فإنه لو والى بين كلام في الطلاق في أزمنة متواصلة ولم يتخلل في أثنائها ما يمنع التأكيد، وزعم أنه أراد التأكيد، قُبل منه.
وإن قال في كَلِم الإيلاء: أردت بكل كلمة يميناً معقودةً مقصودةً، فيكون الأمر كذلك، وفائدةُ تعددها أنه إذا فرض الوطء، انحلت بجملتها، ثم يختلف الأصحاب في اتحاد الكفارة وتعددها، والصحيح التعددُ، كما قدمناه.
ولو أطلق الألفاظ، وزعم أنه لم ينو تأكيداً ولا تجديداً، ففي المسألة قولان.
ولو قال: أنت طالق وطالق، وخلَّل بين الكلمة والكلمة فتراتٍ تُقطِّع وصْلَ الكلام ونظمَه ونضَدَه، وتمنع الحملَ على التأكيد، ثم زعم أنه أراد التأكيد، فلا يقبل منه.
ولو قال: أردت تكريرَ ما قدمته وإعادتَه، قلنا: لا نقبل ذلك منك؛ فإن الطلاق إيقاع، فإذا انحسم وجهُ التأكيد، لم يبق إلا الحملُ على الإيقاع.
9490- ثم هذا يجري في كل لفظٍ فلو أقر بألفٍ لزيدٍ، ثم أقر له بعد أيام بألفٍ، وزعم أنه أراد تكرير الإقرار الأول، قبل ذلك، خلافاً لأبي حنيفة.
وعمدة المذهب أن الخبر الواحد يكرر ليشهر ويذكر، وإذا كان ذلك، ممكناً، صدقناه فيما يريده، فإن أراد نشر الطلاق الذي قدمه، فليقرّ به، فإذا لم يخبر عمّا مضى، واستقل كلامُه إيقاعاً، لم يحتمل غير الإيقاع.
ولو قال: والله لا أجامعك، ثم أعاد اليمين مع انقطاع الوصل وتخلُّلِ الفصل، وزعم أنه أراد إعادة اليمين الأولى، فالذي ذكره المحققون أن هذا مقبول منه؛ فإن الحلف في الحقيقة خبرٌ مؤكد بالقَسَم، وقد ذكرنا أن الخبر يقبل التكرير، وقول الفقهاء: عقد فلان اليمينَ ليس على معنى العقود التي تُنشأ، وإنما المراد أخبر خبراً يُلزمه أمراً.
هذا إذا قال: أردت تكرير اللفظ الأول، ولم يرد تجديدَ يمين.
قال الأصحاب: لو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال بعد زمان متطاول: إن دخلت الدار، فأنت طالق، وزعم أنه أراد إعادة اللفظ الأول، ولم يُرِد تعليق طلاق مجدَّد، كان كما قال؛ فإن هذا في حكم الخبر.
فهذه ثلاث مسائل أطلق الأصحاب فيها قبولَ تأويل التكرير: الإقرار، واليمينُ بالله، وتعليقُ الطلاق والعَتاق.
ومن أصحابنا من قال: تأويل التكرير مقبول في الإقرار فحسب، وهو غير مقبولٍ في اليمين بالله، وتعليقِ الطلاق؛ فإن اليمين إنشاء وكذلك التعليق.
ومنهم من قال: يقبل تأويل التكرير في اليمين بالله، ولا يقبل في الطلاق، وهذا لا بأس به؛ لأن قول القائل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق ليس بخبر، وإنما هو وضعَ الطلاقَ مربوطاً بصفة، والدليل عليه أنه لا يدخله التصديق والتكذيب.
9491- فخرج مما ذكرناه أن الإقرار لما كان إخباراً محضاً معرَّضاً للصدق والكذب، ظهر فيه إمكان التكرير.
واليمينُ بالله خبرٌ من وجه وإنشاء من وجه، فتطرق الخلاف إليه، ودليل انحطاطه عن الإقرار قُبْحُ التكذيب فيه، ولكن للتكذيب فيه مساغٌ على الجملة.
وتعليق الطلاق إنشاء؛ إذ لا مساغ للتكذيب فيه أصلاً.
ثم إذا أتى بألفاظ الأيمان أو بتعليق الطلاق مراراً، وخلّل فصولاً، فإن قلنا: لا يقبل منه تأويل التكرير، فمطلق الألفاظ محمول على التجديد، وإن قلنا: يقبل منه تأويل التكرير فإذا كانت الألفاظ مطلقة، فالمذهب أنها محمولة على التجديد.
وأبعد بعض أصحابنا؛ فقال: هي محمولة على التكرير، والطلاق لا يحتمل هذا، فإذا تقطعت ألفاظ المطلق، وخرجت عن حد التأكيد، فهي على التجديد إذا صادفت محلها.
ثم إن الشافعي رضي الله عنه أعاد في آخر الباب مناظرةً مع أبي حنيفة في مُدّة الإيلاء، ولا غرض لنا فيها.